رسالة إلى الأم من الغربة
منذ أن ابتعدت عنك، تلاشت المسافات في قلبي، لكن كلما طالت المسافة الجغرافية بيننا، زادت المسافات النفسية التي تفصلني عنك، يا أمي. لا يمكن لكلمات، مهما كانت طيبة أو حانية، أن تعبر عن الشوق الذي يملأ قلبي. في الغربة، تبدو الحياة غريبة، والمكان غريبًا، والأشخاص غرباء، ولكن ما يظل ثابتًا هو ذكرى صوتك وهمساتك، التي كانت دائمًا ملاذي عندما كانت الحياة تشتد بي.
الغربة ليست مجرد مسافة بين البلدان، بل هي مسافة بين الزمان والمكان، بين الأمان الذي كنت تمنحينه لي، وبين غموض الحياة التي أواجهها وحدي الآن. تذكرتك في كل لحظة من لحظات الضعف التي مررت بها هنا، حين أبحث عن يدك الحانية التي كنت ترفعينها لتمسحي عني آلامي. تذكرتك عندما كان قلبي يصرخ بشوق، ولكنه يجد نفسه حبيسًا بين جدران الوحدة، متشوقًا لحضنك الذي كان دائمًا يعطيني شعورًا بالأمان.
في كل صباح، لا أستطيع أن أنسى تلك اللحظات التي كنتِ تجهزين فيها فطور الصباح بحب، تضعين في كل طبق قصة حب لا تنتهي، وتغرسين في قلبي شعورًا بالطمأنينة التي لا يعرفها سوى من عاشها. أما الآن، فأنا أجلس في مكان بعيد عنك، أكمل يومي وأنا أفتقد تفاصيل تلك اللحظات البسيطة التي كنتِ تمنحينني إياها. الغربة، رغم صعوبتها، علمتني كم كنتِ أنتِ السبب في شعوري بالسلام الداخلي.
أعلم جيدًا أن الحياة لم تكن دائمًا سهلة عليكِ، وأنكِ كنتِ دائمًا تكافحين من أجل أن تظل أسرتنا في حالة من التوازن. كنتِ تقدمين لنا الكثير من التضحيات دون أن تشتكي أو تظهرين همومك. كنتِ طموحة ومثابرة، رغم كل ما مررتِ به من تحديات، ولكنك كنتِ دائمًا تقفين بجانبنا. ما من كلمات يمكنها أن تشرح لكِ حجم الفخر الذي أشعر به تجاهكِ.
ومع مرور الأيام، تعلمت من تجارب الحياة في هذه الغربة أن القيمة الحقيقية للأشياء لا تُقاس بالأشياء المادية التي نملكها، بل بالأشخاص الذين نحبهم. لا شيء يعوضني عن وجودك في حياتي. في هذه الغربة، أصبحت أقدر اللحظات التي كنتِ تقضينها بجانبي، وأفهم تمامًا معنى البيت الذي لا يكتمل إلا بوجود أمهاتنا فيه. لا أستطيع أن أشرح لكِ كم هي صعبة تلك اللحظات التي أحتاج فيها إلى نصيحتك أو تلك اللحظات التي كنتِ فيها أول من يضحك عندما تسوء الأمور.
أتذكر دائمًا أيام طفولتي عندما كنتِ تعتنين بكل تفاصيل حياتي، تشعرين بمشاعري وتفهمين أفكاري. كنتِ دائمًا تساندينني في أحلامي البسيطة، وتستمعين إلى مشاكلي وكأنها مشاكلك أنتِ. وكان كل شيء يصبح أفضل بمجرد أن تبتسمين في وجهي. الآن، أصبحت المسافات بيننا أطول، والعوائق أكبر، ولكن حبكِ لي دائمًا كان وسيظل هو ما يعطيني القوة في هذه الحياة.
الغربة علمتني أيضًا أنني بحاجة إلى أن أكون قويًا، وأن الحياة ليست كلها وردية كما كنا نعتقد. ولكن في كل مرة أسقط فيها، أجد أن حبكِ هو ما يرفعني مجددًا. عندما تشتد الحياة، أذكر تلك اللحظات التي كنتِ تدرين فيها كيف تواسيني، وكيف كنتِ دائمًا تجدين الكلمات المناسبة في الوقت المناسب. فإلى هذه اللحظة، أبحث عن تلك الكلمات التي كنتِ تقولينها لي عندما كنتُ في ضيق، ولكن الحياة هنا في الغربة تعلمك كيف أن الكلمات تكون أحيانًا مجرد كلمات إذا لم تكن مدعومة بمحبة وعطاء.
على الرغم من أنني أعيش في مكان بعيد، إلا أنني أشعر دائمًا بوجودكِ بالقرب مني. فكلما مررت بلحظات صعبة، أسترجع صوركِ وأصواتكِ في ذهني، وأشعر أنني معكِ. هذا الحب الذي زرعته في قلبي هو ما يحفظني في هذه الغربة. في كل لحظة مريرة، أفتقدكِ، ولكنني أعلم أنكِ هناك، في مكان ما، تصلين لي بتفكيركِ وحبكِ، وهذا ما يمدني بالقوة.
أنتِ من علمني أن الحياة ليست مجرد ما نراه في الخارج، بل هي ما نشعر به من داخلنا. علمتني أن أواجه العالم بشجاعة، وأن أتحمل المسئولية عن اختياراتي. كنتِ أنتِ مصدر قوتي، ولا زلتِ، حتى من بعيد، تمدينني بالقوة التي أحتاجها لأكمل مسيرتي. لا أستطيع أن أنسى تلك اللحظات التي كنتِ تعلمينني فيها دروس الحياة، والتي كنتِ تزرعين فيها الأمل في قلبي.
إن الغربة تجعلنا نتطلع إلى العودة إلى الأوطان، إلى دفء العائلة وحب الأم. وفي كل مرة أعود فيها إلى ذكريات الماضي، أجد نفسي أفتقدكِ أكثر من أي وقت مضى. لكنني أدرك الآن أكثر من أي وقت مضى أن الغربة تمنحنا الفرصة لتقدير من نحب، لتعلم قيمة الأشياء التي قد تكون في متناول اليد ولكننا نغفل عنها.
رسالتي إليكِ يا أمي، من بعيد، هي أنني ممتن لكل لحظة قضيتها معكِ. أعرف أن المسافة بيننا قد تكون بعيدة، لكن حبكِ يظل معي دائمًا، وأنا أعلم أن قلبكِ معنا في كل خطوة أخطوها. قد لا أستطيع أن أكون معكِ الآن، ولكنكِ ستظلِ دائمًا في قلبي، مهما كانت المسافات.
